وأتمتع بأمي

...كتبت سهام ترجمان في كتابها يا مال الشام تقول

أنا اتمتع بأمي لا كما يتمتع الناس.. أنا أراقبها بشدة.. أنظر في عينيها.. في شعرها.. في ثوبها العتيق الذي تفوح منه رائحة المطبخ.. في ابتسامتها الطيبة.. في آمالها الظاهرة والخفية.. في مشيتها.. في نومها.. وهي لا تشعر بي.. لا تعرف أنني أغرف من جمالها الإلهي.. وأختزن صورا لها لا تنتهي

أتمتع بها وهي ترد على الهاتف بصوت متردد، أتمتع بها وهي تشوي اللحم وتقلي الخضار، وتجلي الصحون والملاعق، وتذوب تعبا وراء آلة الغسيل وتنشر الغسيل وتلملمه عن الحبال.. أمد يدي لاساعدها فترفض بشدة وبأغلظ الايمان، فأحترم ايمان أمي المتدينة المتعصبة لإسلامها، وأسكت وابتعد عن ميدان عملها

أمي تتعب، وأنفاسها تلهث، ولكنها لا تشكو من عملها اليومي المرهق من أجلنا.. من أجل أسرتها التي كبر أطفالها وما زالوا أطفالا كبارا يلتصقون بالبيت بأحضان الأم التي تضم البيت كله

عندما أقترب من أمي لأهمس في أذنها أسرار البنت لأمها، أشعر بأنها سعيدة، تسمعني وتحبني وتقف إلى جانب آرائي ومواقفي.. تراني أجمل فتاة في الوجود، وعندما أضحك من هذا الرأي والمجاملة وأذكّرها بالمثل الشامي العامي "القرد بعين امه غزال"ّّ تضحك معي من المثل ولكنها لا تسحب كلمتها، وينمو الغرور السعيد في قلبي

لقد اكتشفت سر سعادة أمي وسعادة الأمهات كل الأمهات من خلالها، وعرفت لماذا تثور في وجهي عندما أدخل إلى مطبخها

أمي سعيدة لأنها تعاني ارهاقا شديدا من أجل أسرتها.. لأنها تزحف رغم تقدمها في السن لتقدم لنا شيئا عظيما قد يراه الناس واجبا يوميا عاديا يتجسد في طبق "كبة لبنية" أو في قميص مغسول ومكوي، أو في بلاط ممسوح، وأراه انا حادثا عظيما تصنعه الأم وهي لا تريد مقابلا له إلا فرحة حقيقية في وجوهنا وكلماتنا،، همها الأول أن تقدم لنا خدماتها

أحسست بثورة أمي الداخلية على ما يسلبه الآخرون منها في أكثر من مناسبة. ماذا يبقى لها لو أخذت أنا منها عملية الطهي مثلا؟ قررت أن أظل طفلتها التي تنقر على طبقها الفارغ بالملعقة الصغيرة بلا توقف، إعلانا مصرا عن الجوع لطبق من يد أمي الماهرة،، فكيف أحرمها في هذه السن من شيء تقدمه للحياة بعد أن منحت الحياة رجالا علمتهم كيف يسلكون طريق الحياة بمحبة وشرف؟ .... لن أفعل.. وقلبي يلتفت حولها يخاف عليها، يتمنى لو يتوقف ليمنحها من دقاته الشابة مزيدا من قوة الحياة

أمي انسانة غنية مثقلة بتقاليد الماضي وابتكارات الحاضر، تتمسك بالأمس وتساير اليوم وتتوقع الغد.. بالعين تفهمك، وبالقلب تضمك، وبالتضحية تأسرك